المادة    
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد سبق الحديث عن العبارة السلفية المشهورة: (من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق)، وبينا أن هذا هو مسلك الصوفية الزنادقة، وهنا سنرجع إلى أصل القضية من الناحية الموضوعية، في بيان من أين دخلت على المسلمين هذه الفرقة الضالة، وهي الصوفية التي تسترت بالحب الإلهي وتدعي أنها تعبد الله بالمحبة ولا تعبده طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره كما يزعمون.
وهذه قضية مهمة، ومن فضل الله أن الدراسات الحديثة الأخيرة عندما نشرت الكثير عن الأديان مما لم يكن منشوراً من قبل أعانت على معرفة الحق في هذا الأمر، ومن ميزة الحق التي اختصه الله بها دون الباطل أن الزمن يكشف دائماً عن صحة الحق، فمع مرور الزمن يتضح بطلان الباطل.
فالذين اتخذوا التصوف عبادة واقتفاء لما يزعمون من آثار نبوية، عندما يناقشون لا يعتقدون أن هذه الضلالة أصلها وثني هندي، ولكن مع مرور الزمن وانكشاف الحقائق ظهر أصل التصوف واضحاً ولله الحمد وبغض النظر عن الدراسات الحديثة فإن هناك كتاباً قل من أشار إليه، بل لا أذكر من رجع إليه، وهو من المصادر القديمة، وقد طبع مؤخراً، وقد يكون سبب إهماله فيما مضى أن صاحبه ليس عالماً مهماً في الأمة، وإنما هو رحالة وجغرافي متفلسف متكلم لا يؤبه كثيراً لما يكتب، لكنه بالنسبة إلى مقارنة الأديان يعد رأساً، وهو البيروني الرحالة مؤلف الكتاب المشهور (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة )، وقد ذهب إلى الهند ودرس أديانها، وكتابه يدل على أنه كان يجيد اللغة الهندية، وله كلام طويل في هذا الكتاب عن أديان الهند ، والذي يهمنا منه ما يتعلق بالمحبة الزنديقية، وهي أن يعبد الإله أو الرب لذاته دون رجاء ثوابه وخوف عقابه، وبيان أن أصل هذه المسألة من الهندوس .
  1. موافقة الصوفية للهندوس في القول

    يقول: (إن الهنود يذهبون إلى أن المعبود والمعبودات شيء واحد) وهذا هو المعروف بوحدة الوجود، والمصطلحات الصوفية الثلاثة -الحلول، والاتحاد، ووحدة الوجود -يدور حولها كفر الصوفية وقد سبق أن فرقنا بينها، وقلنا: إن وحدة الوجود هي: أن الموجودات عين واحدة وذات واحدة، وأهل الاتحاد يثبتون حقيقتين وذاتين تتحدان فتكونان ذاتاً واحدة، وهما في الأصل ذاتان مختلفان، فأصحاب وحدة الوجود والاتحادية مثل فلاسفة اليونان وفلاسفة الهندوس عموماً، وتبعهم بعض من يدعي أنه من المسلمين، ومنهم ابن سبعين على ما يظهر من كلامه، وفي بعض كلام ابن عربي وغيره ما يدل على ذلك.
    وأما الحلولية فيثبتون ذواتاً حقيقة، لكن يرون أنه يمكن أن يحل الخالق في المخلوقات، وأوضح مثال على ذلك معتقد النصارى ، فدين النصارى يقوم على الحلول، وهو أن الله تعالى حل في عيسى، أي أن الإلهية حلت في عيسى عليه السلام.
    والفرق بينهما -كما ذكر شيخ الإسلام في الجواب الصحيح وغيره- أن النصارى اعتقدوا أن مخلوقاً واحداً يحل فيه الله، وهو عيسى عليه السلام، أما الصوفية فإنهم يعتقدون أنه يحل في أئمتهم، ومنهم الحلاج الذي ادعى الحلول وكثير منهم مثله، فمنهم من كان يقول: ما في الجبة إلا الله! ومنهم من كان يقول: سبحاني سبحاني ما أعظم شأني! فكل زعماء الصوفية ، وكل من تصوف وتعمق في التصوف وإن انتسب إلى أي طريقة، بأن ادعى أنه قادري أو نقشبندي أو رفاعي أو تيجاني أو براهمي أو ختمي أو غير ذلك؛ كل أولئك تجدهم يعبرون بأن الله حل فيهم، ويتكلمون باسم الله، ويقولون: إن ذواتهم قديمة، كما هو واضح في أخبارهم.
    فالمقصود أن أصل القضية عند الهندوس أن الموجود شيء واحد، فانظر إلى هذا المذهب الخبيث الباطل الذي تتفق جميع الأديان على بطلانه؛ حتى العرب مع ما كانوا عليه في جاهليتهم من شركهم بالله ما وصل بهم الانحدار في التفكير إلى هذا المستوى، وقد كانوا أقرب إلى الفطرة، يعبد أحدهم الصنم من التمر فإذا جاع أكله لعدم وجود الاقتناع الداخلي به، ويطوف بالصخرة ويعبدها فيأتي وقد بال الثعلب عليها فيقول:
    أرب يبول الثعلبان برأسه            لقد ضل من بالت عليه الثعالب
    فالعرب كانت عندهم فطرة سليمة، ولكنه الاتباع والتقليد، كما قال الله تعالى عنهم: (( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ))[الزخرف:22]، وقال تعالى عنهم: (( بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ))[البقرة:170]، وكذلك حمية الجاهلية، كما قيل لـأبي طالب : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟! أما الأمم الأخرى فإنها ارتكست إلى هذه الضلالات والسخافات.
  2. موافقة الصوفية للهندوس في معتقدهم في الربوبية والعمل

    يقول البيروني: (إن باسديو يقول في الكتاب المعروف بـكيتا) وهذه الكتب موجودة ومعروفة عند الهندوس (أما عند التحقيق فجميع الأشياء إلهية) يعني: هي الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
    (لأن بشن) وهو الرب عندهم (جعل نفسه أرضاً)، فكيف يتصور أن الرب يجعل نفسه أرضاً ليستقر عليها الحيوان! قال: (وجعلها ماءً ليغذيهم، وجعلها ناراً وريحاً لينميهم وينشئهم، ومنح الذكر والعلم وضديهما على ما هو مذكور في فيدا) أي: في أسفار الفيدا ، وفي لغتهم تنطق بين الواو والفاء.
    يقول البيروني: (والغاية المثلى عند هؤلاء هي معرفة الرب والتخلق بخلقه، دون انتظار الثواب أو الجزاء) هذه هي القضية، فيقول صاحب كتاب كيتا: (إن الرب يقول: إني أنا الكل من غير مبدأ بولادة أو منتهى بوفاة، ولا أقصد بفعلي مكافأة، ولا أختص بطبقة دون أخرى لصداقة أو عداوة، قد أعطيت كلاً من خلقي حاجته في فعله، فمن عرفني بهذه الصفة وتشبه بي في إبعاد الطمع عن العمل انحل وثاقه وسهل خلاصه وعتاقه) أي: أن تعمل العمل ولا ترجو ثواباً ولا تطمع في ذلك، وهذا هو منبع الخطأ الذي قاله الصوفية فيما بعد، أن تعبده ولا ترجو الجنة ولا تخاف من النار.
    ثم يقول: (ولهذا لم يعد كتاب سانك ثواب الجنة خيراً بسبب الانقضاء وعدم التأبيد]، فهم يرون أن الجنة تفنى، وهذا باطل.
    يقول: (وبسبب مشابهة الحال فيها حال الدنيا من التنافس والتحاسد لأجل تفاضل الدرجات والمراتب؛ فإن الغل والحسرة لا يزول إلا بالتساوي) هكذا ظن فلاسفة الهنود، فقالوا: إذا كانت الجنة درجات؛ فسيكون فيها تحاسد وتنافس، ونحن نكره الدنيا لما فيها من ذلك، وهذا الذي لا يؤمن به من عرف الله، ولا يعتقده؛ لأنه تعالى بين لنا ذلك فقال: (( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ))[الحجر:47]، فكل أهل الجنة راضون بمنازلهم التي هم فيها.
    وأما الأبدية فمعلوم أنهم خالدون فيها أبداً، كما ذكر الله في آيٍ كثيرة، فأبدية الجنة حق، ولا غل فيها ولا تحاسد، فانتفى ما يخشى منه هؤلاء.
  3. موافقة الصوفية معتقد الهندوس في الجنة

    يقول البيروني : (والصوفية لا يعدونها خيراً من جهة أخرى)، يقول: يزيدون على الهنود شيئاً آخر، (وهي التلهي بغير الحق والاشتغال عن الخير المحض بما سواه) يرون أن الاشتغال بالجنة والنار والحديث عنهما يلهي ويشغل عن الحق، والمطلوب أن يكون اشتغالك كله بالله.
    فنقول: بيننا وبينكم كتاب الله؛ فإن الله في كتابه الكريم قد أخبرنا عن نفسه، وهذا أشرف ما في كتاب الله، كما في سورة الفاتحة وهي أفضل السور، وآية الكرسي وهي أفضل الآيات، وكذلك سورة الإخلاص، والكافرون، ومع ذلك أخبرنا تعالى عما في الجنة من نعيم في سور كثيرة، كسورة الإنسان مثلاً، وحدثنا عما في النار من عذاب أليم في سور كثيرة جداً، وحدثنا الله عن القرون قبلنا وأخبارها، وعن أيام الله فيها والعذاب الذي أصابهم به في الدنيا، ونرى نحن آثار هذه العذاب أمام أعيننا كما نرى آثار من أنعم الله عليهم أمام أعيننا، فهذا يجعلنا نوقن بأن في الآخرة عذاباً ونعيماً ونصدق به.
    فالله تعالى قد أعطى إبراهيم وآله الذكر الحسن في العالمين كما أخبر تعالى، وهذا من النعيم في الدنيا، ودليل ذلك البيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام، جعله تعالى معظماً محبوباً تهوي إليه القلوب والأفئدة من كل مكان وفي جميع الأزمان، وهذا تكريم وتفضيل من الله له، ولكن أين آثار عاد وثمود وأشباههم؟! ما بقي منها إلا أطلال وخرائب تدل على أن الله قد ابتلاهم وعذبهم: (( فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ))[القصص:58]، (( فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ))[الأحقاف:25] لمن أراد أن يعتبر ويتبصر في أخبارهم.
  4. اتفاق الصوفية والهندوس في التمادي في أداء العبادات على وجوه المشقة

    ثم يقول: (وفي كتاب كيتا: كيف ينال الخلاص من بدد قلبه ولم يفرده لله؟!).
    ونريد أن نبين أن هناك أصلاً قد تشترك فيه الأديان جميعاً، فقد نشترك نحن -المسلمين واليهود و النصارى والصوفية - في أشياء معينة وفي مطالب معينة، ولا يعني ذلك أن الدين واحد، فالاتجاه في الأصل واحد، وهو أن الرب المعبود واحد، لكن طرقنا تختلف بحسب الحق والباطل، فالحق هو الذي عليه المسلمون، والباطل هو الذي حرفه وغير فيه غيرهم.
    يقول: (كيف ينال الخلاص من بدد قلبه ولم يفرده لله ولم يخلص عمله لوجهه؟! ومن صرف فكرته عن الأشياء إلى الواحد ثبت نور قلبه كثبات نور السراج الصافي الدهن في كن لا يزعزعه فيه ريح، وشغله ذلك عن الإحساس بمؤلم من حر أو برد؛ لعلمه أن ما سوى الواحد الحق خيال وباطل)، وهذا الكلام قد تجد مثله في إحياء علوم الدين للغزالي أو غيره، وعند التأمل تجد أن أصل هذا الكلام مقارب لقوله تعالى: (( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ... ))[النور:35] الآية، ولكنه بعد ذلك حرف وغير وبدل، فالأصل والمنبع واحد، لكن بعد ذلك كان الانحراف، فعندما يتصور أن ذلك الإحساس يشغله حتى لا يشعر بمؤلم من حر ولا برد هنا يمد ذلك الرهبان الهندوس مداً، فيصبح الإنسان منهم يتعبد في الخلاء ويتعرى في الجبال ولا يبالي بحر ولا ببرد، بخلاف ما لو قال ذلك أحد على سبيل الزيادة في الصبر والتحمل لا أكثر.
    يقول: (وفي كتاب سانك : وكل شيء يظنه غاية له فإنه لا يتعداه)، فكل شيء يظنه غاية له لا يتعداه، فعلى العاقل أن لا يجعل له غاية قريبة، وأن يجعل غايته هي المعبود.
    قال: (وفي كيتا : إن من عرف عند موته أن الله هو كل شيء ومنه كل شيء فإنه متخلص وإن قصرت رتبته عن رتبة الصديقين).
    أي أن المهم معرفة أن الله كل شيء ومنه كل شيء، فالصديقون يعبدون الله ويجتهدون في عبادته، لكن لو أن أحداً اعتقد أن الله هو كل شيء ومنه كل شيء فإنه يتخلص مثلهم وإن كان أقل منهم عملاً.
    وهذا مثل قول الصوفية : توحيد الخاصة، وتوحيد خاصة الخاصة، وتوحيد العامة، (( تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ))[البقرة:118].
    ثم يقول: (اطلب النجاة من الدنيا بترك التعلق بجهالاتها، وإخلاص النية في الأعمال، وقرابين النار لله، من غير طمع في جزاء ولا مكافأة)، أي: اترك الدنيا وتخلى عنها من أجل الله، من غير طمع في جزاء ولا مكافأة، هذا أصل اعتقاد الهندوس ، وينقلون أن سقراط الفيلسوف اليوناني المعروف قال ذلك، وهو وغيره من فلاسفة اليونان أخذوا هذا العقائد من فلاسفة الهند، فأصلها جميعاً من الهند ، وهذا أيضاً ثابت في علم مقارنة الأديان المعاصر.
    يقولون: إن سقراط لما حكموا عليه بالإعدام وجاءوا به ليقتلوه قال: ينبغي أن لا تنحط رتبتي عند أحدكم عن رتبة قوقن. وهو الذي يقال: إنه طائر أبلو الشمس؛ فإن هذا الطائر إذا أحس بموته أكثر الألحان طرباً وسروراً حتى يموت، هكذا اختص الله هذا النوع من الطيور، ويسمونه طير أبلو.
    فيقول: أنا الآن سأذهب إلى ربي، فيجب أن أكون فرحاً وأن تكونوا أيضاً مثلي فرحين، ولا أقل من أن يكون فرحي كفرح هذا الطائر بوصولي إلى معبودي. يرى أنه سيصل إلى ربه وسيتحد به في اعتقاده على ما ينقل في دين الهندوس .
    يقول البيروني: (ولهذا قالت الصوفية في تحديد العشق: إنه الاشتغال بالحق عن الخلق) وهنا نلحظ أن البيروني كلما أتى بعقيدة من عقائدهم ونقل كلامهم يقول: وقالت الصوفية ؛ ليثبت أن الصوفية أصلها هذا الدين الهندي.
  5. اتفاق الصوفية والهندوس في الاشتغال بالفكرة في الرب تعالى عن عبادته

    يقول: (وعن براهم : إن الله هو الذي لا أول له ولا آخر، لم يتولد عن شيء، ولم يولد شيئاً، إلا ما لا يمكن أن يقال: إنه هو، ولا يمكن أن يقال: إنه غيره)، وهذا شيء من الحق خلط بشيء من الباطل.
    يقول: (وأنى يكون لي طاقة بذكر من الخير المحض في رضائه، والشر المحض في سخطه، وهل يمكن إدراك معرفته حتى يعبد حق عبادته؟! إلا بالاشتغال به عن الدنيا بالكلية، وإدامة الفكرة فيه).
    فجعل العبرة ليست في أن نعبده، ولكن أن نشغل أذهاننا فيه، وهكذا الصوفية يتركون العبادة بدعوى الاشتغال به تعالى، وهذا يوضح كثرة التشابه بين الفريقين.
    ثم يقول البيروني: (إنما ذهبوا في الخلاص) الذي هو دين النصارى اليوم (إلى الاتحاد؛ لأن الله مستغن عن تأميل مكافأة أو خشية مناوأة، بريء -في نظرهم- عن الأفكار؛ لتعاليه عن الأضداد المكروهة والأنداد المحبوبة)، فانظروا إلى الضلال! وهذا الذي أخذه أفلاطون ، يقولون بعبادة أوضح كما وضحها أفلاطون : إن الله -سبحانه وتعالى- كامل، والعالم ناقص، والكامل لا يشتغل بالناقص، ولا يفكر فيه ولا يبالي به، فلهذا خلق الخلق وتركه!!
    إذاً: كيف يدار الكون؟ ومن يدبر الأمر؟ ومن يصرفه؟
    قالوا: خلق العقول العشرة، وكل عقل منها خلق الذي بعده إلى العاشر، وبعد هذا خلق النفس الكلية، والنفس الكلية فاضت على العالم… إلخ.
    يقول الحسن البصري رحمه الله: [ولا أن لهذا الكون رباً يحادثه] ي: لولا أن للكون رباً يغير الليل والنهار، ويسوق السحاب ويدبر الأمر [قال القائلون: لو أن لهذا العالم رباً يحادثه، فلو كان كل شيء لا يتحرك مطلقاً لقال الظالمون والمفترون: أين الرب؟ والله يدبر الأمر، وهو كل يوم في شأن]
    فـ القائلون بأن الله تعالى خلق الخلق وتركه هم الضلال الذين سماهم الله المضلين، يقولون الكذب ويقولون على الله بغير علم، ولذلك قال الله تعالى: (( مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ))[الكهف:51].
    فهؤلاء المضلون يقولون: هو كامل، وليس بحاجة إلى أن يكافئ أحداً أو أن يعذب أحداً!
    والحق أنه كذلك، لكن حكمته اقتضت ذلك، أما كونه غنياً عن العالمين وكاملاً وغير محتاج إلى أحد؛ فهذه حقيقة واضحة عندنا نحن المسلمين، ولكنه مع غناه حكم عدل، فلا بد من أن يجازي المحسن بالإحسان والمسيء بما عمل، أما هم فيقولون: إذا كان غنياً عن ذلك فالقصد الثواب وليس العقاب، وإنما يطلب ويعبد لذاته، والمتخلص الكامل يتمثل بالله في ذلك، أي: يعبد فلا يرجو منه شيئاً؛ لأن الله غني عن العالمين، فكذلك المتخلق بأخلاقه يعبده ولا يرجو ولا يطمع!
    فهذه هي الشبهة الخبيثة التي دخلت عليهم في هذا الباب، وقال من قال من الناس: إنها من الإسلام.
    وهنا قصة عجيبة تدل على ضلال الصوفية، وعلى أن هذا المزلق هو الذي أدى بهم إلى إفساد دين المسلمين بعبادة القبور وبناء القباب والأضرحة ودعاء غير الله وعبادة الأصنام والتماثيل تحت ستار معرفة الله، يظنون أنهم أولياء لله وهم الذين أفسدوا دين الإسلام بهذا الشرك.
  6. اتفاق الصوفية والهندوس فيما يتعلق بالمخاطبات

    يقول البيروني عن أحد كتب الهندوس حاكياً قصة من قصصهم: (كان فيما مضى من الأزمنة ملك يسمى أنبرش نال من الملك مناه، فرغب عنه وزهد في الدنيا وتخلى للعبادة والتسبيح زمناً طويلاً) أي: تصوف (حتى تجلى له المعبود في صورة أندرا رئيس الملائكة) وهو إله الشمس عندهم، ولذا يسمون باسمه، ومن هؤلاء أنديرا غاندي .
    يقول: (تجلى له المعبود في صورة أندرا رئيس الملائكة راكباً فيلاً وقال: سل ما بدا لك لأعطيكه. فقال الملك: إني مسرور برؤيتك، ولكنني لست أطلب منك، بل ممن خلقك. فقال أندرا : إن الغرض في العبادة حسن المكافأة عليها، فحصل الغرض ممن وجدته) يقول: ما هو الغرض من العبادة سوى الجزاء والمكافأة؟! فخذ المكافأة ممن وجدت، ولماذا تشترط الرب؟!
    (فقال الملك: أما الدنيا فقد حصلت لي وقد رغبت عن جميع ما فيها، وإنما مقصودي من العبادة رؤية الرب) يعني: لا أريد أي مكافأة، ولا أريد أي شيء، بل عبادتي محبة في الله فقط، وأريد رؤيته فقط. وهذه نفس الشبهة التي قالها الصوفية بعد.
    وبعد ذلك أخذ الملك يتحدث مع أندرا ويقول: أنا لا أريد جزاءً ولا شكوراً، إنما أعبده لذاته، فإذا بالرب -كما يزعمون- يتجلى له في صورة إنسان له هيبة وله هالة من النور، فلما رآه الملك اقشعر جلده من الهيبة وسجد وسبح كثيراً، فآنس الرب وحشته وبشره بأنه قد حصل على ما يريد من مشاهدة الرب ومخاطبته! فالشيطان يلعب بالعقول منذ زمن قديم.
    يقولون: فقال له: كيف أتخلص من هذه الدنيا؟!
    فقال له الرب: بالتخلي عن الدنيا بالوحدة، والاعتصام بالفكرة، وقبض الحواس إليك.
    فشكا الملك إليه أنه لا يستطيع ذلك؛ لأن الدنيا مشغلة تشغل الإنسان عن التفكر فيه، فقال له: إن غلبك نسيان الإنسية؛ فاتخذ تمثالاً كما رأيتني عليه، وتقرب بالطيب والأنوار إليه، واجعله تذكاراً لي لئلا تنساني، حتى إن عنيت فبذكري، وإن حدثت فباسمي، وإن فعلت فمن أجلي. أي: تكون أفعالك كلها لي خالصة، وهكذا.
    وقد ذكر قصة أخرى مشابهة لهذا، ثم قال: (ومن حينئذٍ وضعت الأصنام بالصور)، والأصنام في الهند إلى اليوم على صورة بني آدم، وصور أخرى كبيرة جداً، ويجتمع عندها الملايين يعبدونها إلى اليوم.
    فهذا أصل دينهم، وهو مخاطبة الرب كما يزعمون، والصوفية أخذوا ذلك بطريقة أخرى، فإنه إذا مات الشيخ أتاهم في المنام وقال: ابنوا على قبري قبة واتخذوه ضريحاً، ومن كان له حاجة فليدعني وأنا آتيه. ولذلك كثرت عندهم المخاطبات كما يسمونها.
    والله تعالى بحكمته ورحمته أنزل إلينا هذا الكتاب وأرسل إلينا هذا الرسول الذي قال فيه: (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ))[الأنبياء:107]، ووصف القرآن في أكثر من آية بأنه هدى ورحمة وبشرى وموعظة وشفاء لما في الصدور، فهذه الرحمة التي من الله بها علينا يعرضون عنها، ويريدون أن يخاطبهم الله، وكأن كل إنسان منهم يريد أن يلقى إليه كتاب خاص أو صحف منشرة، كما أراد ذلك بعض الجاهلين، فلذلك ينام المرء منهم وهو يريد أن يرى الله في المنام أو يخاطبه الله، وتطور الحال ببعضهم إلى زعمهم أنهم سمعوا المخاطبات، بل إنهم جمعوا هذه المخاطبات، كما في كتاب المخاطبات لـعبد الجبار النفري ، فكله مخاطبات، يقول فيه: خاطبني ربي، وكلمني ربي! وما معنى تكليم الله لعبده في الدنيا سوى النبوة؟!
    فهؤلاء القوم تارة يقولون بالمخاطبات وتارة يقولون بالمكاشفات, والكشف هو الوحي, ولكن بصورة ملبسة، فكل منهم يدعي أن الله يخاطبه ويوحي إليه، والحقيقة هي كما قيل لـعبد الله بن عمر : إن المختار يزعم أنه يوحى إليه! فقال: صدق. قالوا: كيف؟! قال: ألم يقل الله: (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ))[الأنعام:112]؟! فهذا من وحي الشياطين.
    فالمخاطبات والمكاشفات مثل هذه الرؤى التي كان يتحدث عنها أولئك الهنودس من قبل، وقل أن تجد شيخاً من شيوخهم إلا وهو يزعم أنه أحب الله حتى رآه وخاطبه وكلمه وقال له وأوحى إليه، وما أكثر ما يفترون على الله من الكذب بهذه المخاطبات والأفعال والأحوال.